الجمعة، 26 فبراير 2021

رسالة إلى (مرات) القديمة بقلم احمد عبدالله الأسود :


رسالة إلى (مرات) القديمة
كتب احمد  عبدالله الأسود :
لماذا تغيرت يا مربع طفولتي ؟ تقولين أنك لم تتغيري ؟ بل ان حتى صوتك قد تغير ، ووجهك الباسم بحزن ــ كوجه المانوليزا ــ قد اكتسب ملامح جديــــــدة . أرى آثار مبضع ومشارط ... أعملية تجميل ؟ أكنت تخافين الهرم ؟ وكيف تهرمين وأنت منحوتة من الأبدية ؟ ثم من أين اكتسبت تلك اللغة الغريبة ؟ لم أعد أفهم حديثك يا جميلتي ، كنت تقصين علي " الحجايا "فيشرق وجهي الصغير بالفرح والبراءة ، وكنت تلهبين خيالي الوثاب فيقفز  فوق كل حواجز المنطق ويتعدى كل حدود المعقول . كنت أحدثك كل يوم بهمومي الصغيرة فتصغين إليّ بدون تذمر ، والآن  كأنك ما اكتسبت حاسة السمع يوماً . وجهك المعبّر الجميل أصبح صلداً متصلباً  ، وعيناك .. أواه من عينيك .. ماذا دهاهما ؟ كنت أبحر في عينيك في الصباح وأعود في المساء فلا أكاد أتجاوز الشاطئ .. واليوم - يا مسرح صباي - يتعذر الإبحار فالماء ضحل والقيعان صخرية .
لماذا ؟ لماذا ؟ لماذا تبدلت ؟ كان الأجدر بك ان تخبريني بأنك ستولدين من جديد ، وأنك ستسلخين هويتك التي شكلت جزءا من ذاكرة براءة  الطفولة و ريعان الصبا وشرخ الشباب  ، جزءا من تاريخي الشخصي .  وأنك ستخلعين ثوبك الذي أعرفك به ذا النقوش البديعة المستوحاة من عبق طينك وأزلية صخورك .  وانك سترتدين ثوبا جديدا غريبا مبرقشا تنكره عيناي وإن عرفه قلبي . أي رحم تمخض عنك  وقذف بك لتبدئي رحلة الحياة من جديد ولكن كطفلة هذه المرة ؟  . أبناؤك الذين كنت لهم المعلمة والمربية والملهمة شاخوا  ، وعدت الآن طفلة  تحبين  حبوا، فهل يعلمك ابناؤك المشي ويصبحوا ملهميك  ؟ كيف لطفل أن يعلم أمه ، وكيف لأم أن تستعين بوليدها ؟  فالآن لا أنت أنت ولا نحن نحن .  
ولكن هل يجدي العتاب ؟ هل ينفع الأسى ؟
وساقتني قدماي ... دخلت أزقة القرية .. ترابها يشكل جزءاً من ذاكرتي وأصرخ في رهبة الصمت .. أين أنت ؟ وأظل أصرخ فلا مجيب .. حتى الصدى لا يعود .. يقتلني صمتك الرهيب .. يؤلمني هذا السكون .. ويتسلل هذا الخواء وذاك السكون إلى كل خلية في جسمي .. وأحس باغتراب  يملأ كل كياني .. وشعور بالتوحد والانفراد يملأ كل ساحة فكري . ووقفت أصغي للجدار .. أصوات قهقهات مخزونة منذ  فجر الزمان .. وصوت " دنانة " يلعبها طفل .. ثغاء ماعز بعد الغروب .. 
هل يجدي العتاب ؟
دخلت في الأزقة المسقوفة بالجريد "الصوابيط "  .. خواء .... قشعريرة .. كآبة تدّب في العظام .. سقوفها كآبة .. لبنها كآبة .. ترابها كآبة .. كانت يوما تعبق بالدفء .. تعج بالحياة ..
 وفي التراب آثار صبية يلعبون " طارت غباره "  و"عظيم ساري " وفي الفضاء أصوات     " الكعابة " و " الطيبان " وفي القمراء همهمات .. وأصوات جذلي .. وأغنية  سمر تمزق رتابة الظلام ..
هل يجدي العتاب ؟  
وفي الهجيرة ، على الطريق إلى حقول ( العلاوة ) .. عسيب نخل .. وأشمه .. مطر .. ما أجمل رائحة المطر .. ما أروع الذكرى ما أجمل المطر .. تنتشر " الخواطيف " في فضاء الشوارع .. ويهطل المطر .. تتساقط القطرات وتهمس في أذني بصوت رخيم ... أنشودة عذبة تمجد الحياة  وتزدهي خضرة" الطبطاب"  ويورق " الحرمل " وتسكت زقزقة العصافير. وحين يهطل المطر نطير نحن الصبية من الفرح  ، نسابق الجداول المتشكلة في الأزقة ، وتكتسي الجدران حلة قشيبة وتطلق عطرها الطيني عبقا  ، ونحن سادرون في سعادة فردوسية ظننا أنها لن تزول أبدا .
هل يجدي العتاب ؟
وأزهر الطريق حولي ..( حوذان) .. وانقشعت الغيوم كسلى وتزاحمت الأصوات نشوى في الفضاء .. ومرّت نسائم عجلى  واهتزت لها سويقات النبات في تموج متناغم فتان .. وزمجرت الحياة في عروقي حرىّ .. والتهب الإحساس .. ولم يعد هناك إلا إحساس دافق وشعور جياش بالحياة . وانظر حولي فأرى المكان نقطة واحدة مثبتتة في إطار من الزمان .. ثم يتلاشى الزمان  .. وتصبح كل الابعاد نقطة واحدة .. أنبثق منها .. ويصبح الزمان ــ المكان ــ أنا  ، وحدة ذات ثلاثة وجوه .
وأجلس على عتبة الدار شذّبتها الأمطار وصقلتها الرياح   ، وصوت أمي رحمها الله يناديني بالدخول . وأرسل نظرة عجلى حولي .. لا شيء سوى الخواء .. كل شيء باهت .. كل شيء يحتضر ..ثنائية الحياة/الموت تكتنفها كل لبنة في ذلك البناء . ويطل من  داخلي شاعر جاهلي يقف على الأطلال يبكيها . 
هل يجدي العتاب ؟ هل تنفع الشكوى ؟ 
واغمضت عيني فتلاحقت الصور في غير ما ترتيب زمني ..صور الطفولة تتداخل مع صور الصبا وريعان الشباب ... صورة أمي وأبي( رحمهما ربي ) وإخوتي الصغار صالح وعلي ( رحمه ربي ) ومحمد وسلطان متحلقين نتناول العشاء في ساحة الدار . ونحن في السطح في ليالي الصيف الصافية والقمر يمطرنا بقمرائه ، وأمي تقص علينا الحجايا   . ونحن نلعب الكرة داخل الدار وأمي تنهرنا  ، ونحن نلعب (الحوح ) و (البربرة ) وقت الأصيل . ونحن نسرح بالخراف والجداء الصغيرة  بالقرب من (الجث ) فرحين بلعبها معنا  . ونحن نكسر  طبقة الجليد الرقيقة التي تغطي سطح وادي الجفرة في الصباحات الشتوية  . ونحن نسبح في الشعيب  بعد الأيام المطيرة وصراخنا يصم الآذان  .  ونحن ننطلق بأقصى سرعتنا منهلين من قرب قمة كميت  في ( المهلة )  ونحن نقطف الجنا أيام الربيع ، ونحن نلعب بسيارات صنعناها بأيدينا  ، نسيّرها في طرق صممناها بأنفسنا .   و ... و...  والذكريات صور تنقشع وتتلاشى كالغمام  كلما ظننت أني  أمسكت بواحدة طارت هي  الأخرى  . و في خلفية ذلك السيل من الذكريات إنساب لحن السنباطي الرائع بصوت أم كلثوم العذب يشدو في رأسي :
كيف أنسى ذكرياتي وهي أحلام حياتي 
إنها صورة أيامي على مرآة ذاتي 
وأطلقت تنهيدة وأخذت حفنة من التراب .. وراقبت حبيباته تتسلل من بين أصابعي .. وأخذت حفنة أخرى ووضعتها في جيبي .. وأحسست بقطرات العرق تتصبب باردة على صدغي .. ونهضت .. ومشيت في الطريق الطويل الخالي  والأسى يعصرني والحسرة تأكلني  ، ورددت دمعا أبى إلا أن ينطلق .. ولم يكن هناك إلا أنا والأرض .. ومشيت ولم ألتفت .
د. احمد الأسود