الجمعة، 26 يونيو 2015

سَنا (الذكريات).. بين (السَّروَات) و(مِرَات).؟!! حماد بن حامد السالمي


* هممت أن أرسم (مِرات)؛ مثلما فعل المؤرخون والمجغرفون القدامى؛ الذين ربطوا اسم هذه المدينة؛ التي كانت بلدة فيما مضى؛ بالشاعر الجاهلي (امرؤ القيس التميمي)؛ فقالوا: هي (مرأة)، ثم خففوا أو رققوا همزتها فصارت ألفا وقالوا (مراة)، ثم وجدت المؤرخ والمجغرف الشيخ (عبد الله بن محمد بن خميس)؛ في كتبه ومنها على وجه خاص، (المجاز بين اليمامة والحجاز)، و(معجم جبال الجزيرة العربية)، يحض ويحث على هذا الرسم وحده (مرأة)؛ بل وينهى عن غيره؛ رغم ثقله على اللسان؛ ووحشته في الآذان.
* قلت هممت ولم أفعل؛ لأني لقيت المعاصرين من أبناء (مرات)؛ لم يكتفوا بما طرأ على همزتها من تخفيف وتجفيف؛ وإنما رققوا تاءها المربوطة؛ حتى جعلوها تاء مفتوحة.. هكذا: (مرات)، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر؛ المربي الأديب الأستاذ (عبد الله بن عبد الرحمن بن دهيش) في مدوناته وتوثيقاته، الذي عساه أن يظهرها للنور في حياته، أطال الله في عمره، وأخيه الزميل الصحافي الأستاذ (إبراهيم بن عبد الرحمن بن دهيش)، في إعلامياته في صحيفة (الجزيرة)، والمؤرخ الأستاذ (عبد الله بن ضويحي الضويحي) في شعره وكتبه؛ وخاصة كتابه (مرات)؛ الصادر ضمن سلسلة (هذه بلادنا).
* كيف لا تكون ذكريات؛ لها من السنا والشذى؛ ما يربط سراة الطائف؛ بمدينة (مرات)؛ التي هي درة الوشم؛ فقد عرفت (مرات) عن بعد؛ يوم عرفت جمعاً من طليعة أبنائها الفضلاء في الطائف قبل أكثر من ربع قرن. كانوا اعلاماً وعلماء إجلاء؛ من أنبل الأدباء والشعراء، عرفتهم في القديم وفي الحديث، فكانوا ومازالوا أصدقاء فضلاء؛ فهم أينما حلوا؛ خير سفراء لمرات وأهلها. عرفت الشاعرين النابغين الأخوين (إبراهيم وعبد الله) ابني محمد الزيد، ثم الشاعر الفيلسوف (حمد بن زيد الزيد)، ثم الشاعر الحزين (حمد بن سعد الحجي) - رحمه الله -، فالأستاذ الشاعر الرقيق (موسى السليم)، فالشاعر النديم - نديم كميت فقط وليس غيره - (حمد الدعيج)، وغيرهم من التربويين أمثال الأستاذ (عبد الله الزامل)، رحمه الله رحمة الأبرار.
* لن أتوقف كثيراً عند (مرأة) و(مراة)، و(مرات) وهذه هي أسماء تدرجت على ما يبدو منذ عهد امرئ القيس التميمي حتى يومنا هذا.. ولكني سوف أتوقف عند أيام رأيت فيها الشاعر الحزين (حمد بن سعد الحجي). رأيته فيها في مصحته النفسية بالطائف في شهار قبل ثلاثين سنة مضت، فلفت نظري شاعر نجدي نابغ من مرات؛ عاش حبيس شعره، وظل الشعر والشاعر؛ حبيسي الحزن والمرض النفسي، وهما صنوان، ويوم أن عرفت الأستاذ الأديب (صالح الصالح)، صديق المرحوم الحجي، تقربت من الأخير أكثر من خلال شعره قبل جمعه وطبعه، كنا نكتفي بذكر البيت والبيتين من قصيدة له؛ فينطلق في سردها كاملة من الذاكرة في سرور وحبور منقطع النظير، حتى جاءت سنوات السأم؛ التي فقدنا فيها تغريد هذا البلبل المريض وشدوه؛ ففي آخر عهدي به قبل وفاته؛ اصطحبناه - صالح الصالح وأنا - إلى قمة مخضرة في الشفا؛ ربما لحثه على الشدو والتغريد من جديد، لكنه رفض الكلام، وأبى الجلوس؛ وقام يجوس؛ ويطلب العودة إلى سجنه، الذي دخله فمات فيه بعد فترة وجيزة من ذلك اللقاء الأخير.. رحمه الله.
* عندما عرف الصديق الأستاذ (عبد الله بن دهيش)؛ بزيارتي لمحافظة القويعية؛ دعاني - مشكوراً لزيارة مدينته (مرات)، فكنت مسروراً بالدعوة وبصاحبها على شرطها وهو: الوقوف على دار الشاعر المرحوم (حمد الحجي)؛ فكان لي ما أردت، وكان لي سرور فوق سرور؛ أن كنت صحبة الأديب والناشر الشهير الأستاذ (عبد الرحمن بن فيصل المعمر)؛ في زيارتي لمحافظة القويعية ومرات كذلك، وازددنا - هو وأنا والأستاذين؛ (فهد بن أحمد السالمي، وياسر بن معلا الروقي) غبطة وبهجة؛ أن التقينا في دار صديقنا (ابن دهيش)؛ بجمع من الأدباء والصحافيين الأكارم؛ الذي منهم: الأساتذة: (حمد الدعيج)، و(عبد الله الضويحي)، و(إبراهيم بن دهيش) و(علي العطاس)؛ مدير مكتب صحيفة الرياض في شقراء وزميله (حمود الضويحي)، محرر صحيفة الرياض في مرات.
* في جولة سريعة حول مرات؛ اكتشفت أن هذه المدينة؛ هي من مدن المملكة القلائل التي تحترم قديمها حقيقة؛ فعندما نشرت بصري من قمة جبل كميت؛ رأيت قصبتها القديمة كما هي لم يطمثها إنس ولا جان..! وهذه حسنة فرطت فيها مدن شهيرة أقدم منها؛ مثل مكة والطائف وجدة وحتى المدينة المنورة.. إن مدينة مرات؛ تحسن إلى نفسها؛ حينما جعلت من هذا الجبل الأشم (كميت)؛ مطلا على ماضيها العريق؛ ومتنزها شاهدا على حاضرها الزاهر الجميل.
* من قمة هذا الجبل الاكمت؛ ترى كل مرات، فلا مراء أن قالوا قديما: (اضمن لي كميت؛ أضمن لك مرات)، فهو دالة على مرات حتى من بعيد، ومن الشعراء من جسد هذا المقصد.. قال الشاعر (عبد الله الزيد):

يا (كميت).. ياليتني براسك تعليت

أشرف على الديرة وأطالع بناها

* ويقول الشاعر (عبد الله بن محمد الضويحي):

الله.. لحد ياما على (كميت) عديت

أشرف مرات ونخلها مع رباها

ويظل هذا الجبل الأشم، من ملهمات الشعر في مرات قديما وحديثا، فمن الشعراء المعاصرين؛ الذين اغترفوا من لج إلهامه؛ الشاعر (عبد الله بن عبد العزيز الضويحي)، له قصيدة من طرق الحميني، وقفت عليها منشورة؛ في موقع إلكتروني؛ وهو فيها يشير إلى كميت الذي تحولت قمته إلى متنزه جميل؛ يشرف على مرات القديمة، ويطل على مرات الجديدة فيقول:

نور سطع من علاوي كميت

لا قبلت.. بانت تباشيره

سيفين ونخلة.. غشاه الليت

وقصر الملك.. خوش تصويره

يسطع على ديرة أهل الصيت

مرات.. يا حيها ديرة

واللي بدع رسمته.. عنتيت

يا زين رسمه وتدبيره

يا ليت ناس فنوا.. يا ليت

يرقون ويناظروا الديرة

يوم انهم.. خابرين كميت

صعباً عليهم مشاويره

يشاهدون النخل والبيت

والسوق والجامع وغيره

يا ضايق الصدر.. إلى مليت

خذلك على كميت تدويره

النفس ترتاح إلى ونيت

والقلب تنساح أساريره

يا ديرتي فيك لو عديت

خمسين شاعر لهم سيره

نبي بعضهم يجاري البيت

ويكتب عن كميت تقريره

* أين هو ابن مرات اليوم؛ ذلك الشاعر الذي وصفه الأستاذ (محمد بن احمد الشدي) في (عذاب السنين)؛ ب(الطائر الشادي)، و(الشاعر الأصيل)، وأنه: (شاعر نجد في هذا القرن، لأنه أكثر تعلقا بها، وذكرها في شعره كما لم يفعل غيره).
لقد عاش الشاعر (حمد بن سعد الحجي) - رحمه الله -؛ شاهدا في غربته على بلدته مرات؛ بكل ما فيه من أنفة وحب ورقة إحساس، مثل ما هو جبل كميت؛ شاهدها القريب على أعتابها.. يقول - رحمه الله - في بعض شعره:

يا من يسائل كيف العمر أنفقه..؟

هذي حياتي.. بحر القول أرويها

حب، وسجن، وحرمان وداجية

من الليالي بأشعاري أزجيها..!!

* مثلما كنت ألمح الشاعر الحجي واقفا في قفص بين سجانيه الأربعة؛ (الحب والسجن والحرمان والظلام)، كنت أرى غلبة سجانه الأول (الحب)؛ على كل ذرة فيه، وهذه شذرة واحدة من سنا الذكريات معه؛ تلك التي تجددت عندي على هامة جبل كميت. يقول الحجي في واحدة من ألمع شوارده الشعرية؛ التي أوردها الأستاذ الشدي؛ في (عذاب السنين):

لو كان لي قلبان.. عشت بواحد

وتركت قلباً في هواك يعذب

ثم.. وفي شاردة أخرى مضيئة:

أعيدوا لي غرامي.. إن نفسي

تمل من الحياة.. بلا غرام

* وهل تحلو الحياة بلا حب..؟!!

* ولي عودة - إن شاء الله -؛ للكلام على مرات وأهلها.

assahm@maktoob.com

fax: 027361552

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق